السبت، 26 ديسمبر 2009

بالفول بالعدس هنكمل المشــــوار ..... الحلقة الثانية


 الحلقة الثانية
بالفول بالعدس هنكمل المشــــوار 
كنا نغنى بصدق وشفافية شديدة .. كانت الكلمات والألحان تنبع من بؤسنا ، وبؤس حالة حينا الفقير..
وكان سيد قمر بعد أنتهاء الغناء يتوجه لى قائلا بصوت عالى:
ياخلاصة كبد الحوت والله بكره لتسيب الحارة .. وأدى دقنى أهية .. إن ما رحت سكنت فى عماره ...
وقلت يا مبادئى وداع ... وجبت شيفورليه... ويضحك الجميع ... ولاتدرى مجموعة الشباب إلى أين تسير الأيام ؟!!!!!!
ويخرج علينا محروس بدر:....(( كروان حينا)) ....وسنباطى حارتنا.... بمطلع قصيدة (أخى وصديقى عبده مصطفىطالب كلية الهندسة) :
يا ليل ... يا ليل ... يا ليل
ياأبـــــو الغلابة ياليل
يا شارب مـعايا الهم .. مـلو الكـيل
ياعــالم بــحالى
وأنا اللى راح منى الحيل
يـارب دى حـــكمتك
وانــت اللى خــالقـنى
فيقاطعه محمد بلاص المنجد..... والمطرب العاطفى للحى... وزينة شبابه....... والذى كان يلحن الأشعار فوق القوس الذى ينجد به المراتب وينظف به قطن التنجيد :
ياعالم كفاية الهم اللى أحنا شاربينه... فيه حد بذمتكم يغنى للهم ...عايزين نغنى للحب... ويجبرنا على السكوت.. وينطلق بصوته الجميل والذى لم يتأثر يوما ما بغبار القطن :
راجـــع ليـه تـانى تـفكرنـى
باللى نســيته بـقالى زمـــان
لســـه غرامــك هايــسهرنى
لســـه ها أقاسى معــاك حرمان
لايـا حبيبى ... لا... لايـا حبيبى
نحن حى .. كما عاش كوميديا وتراجيديا البؤس.... فإنه عاش أيضا كوميديا الحرب :
..نحن حى يعشق المظاهرات ... ويعشق النكتة.... ويعشق فن الحبكة المسرحي ... تعالوا معا نشاهد كوميديا الحرب فى حينا :
تبدأ القصة والحبكة المسرحية... من داخل محل (موهوب وسلامه) لصاحبه سلامة الكهربائى.. والمحل مجاور وفى مواجهة محل( على سعيد) صاحب أقدم وأعرق محل لاستصلاح وتأجير الدراجات بالحى .. على سعيد:
المدرسة الإلزامية لكل صبى فى الحى من صبيان الورش .
تبدأ المؤامرة أو الحبكة المسرحية.... بورقة فى الليل يعدها سلامة الكهربائى ويعلقها على باب دكان على سعيد.. ورقة نصها:
البقاء للـــــــه
المــــحل مــغلق اليـــوم
لوفاة صـــاحبه الحـــاج علـــى ســـعيد
ويذهب سلامة الكهربائى لعبد الجواد حانوتى الحى.... ويعطيه مبلغ نصف جنيه كى يلف على جميع حوارى الحى بطبلته الشهيرة ليعلن وفاة على سعيد ... ويخرج عبد الجواد فى الصباح الباكر ... ويقرع طبلته معلنا وفاة على سعيد .
وبعد أن تم إعلان الوفاة فى جميع أنحاء الحى تقريبا... كان هول المفاجأة :
... إذ وقف عبد الجواد .. أسفل منزل على سعيد مناديا:
الحاضـر يقول للغائب ... الحاج على سعيد مات ..(والجنازة السـاعة 12 الظهر من جامع فلفل)..
وكان على سعيد نائما على كنبة أسفل الشباك بالدور الأول... ولما أفاق من نومه على صوت الطبلة ..
أطل برأسه من الشباك متسائلا (( مين اللى مات ياعبد الجواد)):
... فنظر عبد الجواد إلى أعلا قائلا :
على سعيد... والجنازة من جامع فلفل .... ولما دقق النظر وجد أن المطل من النافذة هو على سعيد بشحمه ولحمه.... فما كان منه إلا أن أطلق قدميه للريح ... وعلى سعيد من النافذة يسبه ويلعنه ويلعن أبوه..
قام جميع أهالى الحى من النوم , وقد أنتشر نبأ وفاة على سعيد فى جميع الحوراى !!!
ولم تقف حدود الحبكة المسرحية عند هذا الحد ... لم تقف عند حدود إشاعة خبر كاذب بوفاة ( على سعيد)... لم يكن ذلك إلا الفصل الأول من المسرحية ..
أما الفصل الثانى وكان أيضا من إعداد وتأليف سلامة الكهربائى … حيث أنه كان قد جمع 50طفلا من الحى ,وأعدهم إعداد جيدا للفصل الثانى من المسرحية .. حيث أنه فى تمام الساعة الثانية عشر ظهرا .. وفى تمام الموعد الوهمي للجنازة .. سارت مظاهرة الأطفال الحاشدة فى الحى تهتف :
متصدقش .. متصدقش.... على سعيد لسه مامتش......ما تشمتش ياديان ...على سعيد فى الدكان...على سعيد فىالميدان.
أحمد غريب ..
-------
أبن حينا..كان مقاتلا حقيقيا على الجبهة.. مقاتلا وسط الدانات والبارود ..يأتى فى أجازته .. ويجلس على القهوة .. ويظل صامتا لفترة ما....وكان لايتكلم إلا بعد أن ننكشه فى الكلام... ويقول أحدنا:
هو أية اللى حصل فى معركة رأس العش يا أبو غريب؟
فيلتفت يمينا ويسارا , ويبدأ الكلام بجملته الشهيرة: ( ياجماعة دى أسرار حربيه ... ماتضغطوش علئ أنا موقفى حساس)...
وقبل أنت نضغط عليه يسترسل فى الحديث ويصف لنا معركة حربية دقيقة شاملة:.. الخطة... وتوزيع القوات وكيفية الهجوم ....والتمويه على العدو...... وخداعه.....
لايستطيع أبرع مخرج سينمائى أن يصور مشاهد القتال كما كان يصورها لنا (أحمد غريب).....
فى المرة الأولى (ومن دقة الوصف وروعته والمصطلحات بالغة العسكرية) صدقنا أن أحمد غريب هو القائد الفعلى لمعركة رأس العش...
وفى المرة الثانية:... كان أيضا أحمد غريب هو القائد الفعلى لمعركة شدوان... والثالثة: كان أيضا أحمد غريب هو القائد الفعلى لمنظمة تحرير سيناء..... والرابعة:... سر أذاعه أحمد غريب وطلب منا ألا نذيعه.....
وكان مضمون السر أن أحمد غريب أيضا هو الذى دمر المدمرة أيلات..
صدقنا فى المرة الأولى .. وضحكنا فى الثانية .. وفى الثالثة .. والرابعة ..
والغريب فى أحمد غريب أنه كان يقابل ضحكنا بصمت وتعجب شديد ويظل يسترسل فى الرواية .. ومن حلاوة القصة وروعة التصوير الفنى للمعركة العسكرية .. كان يجبرنا لمدة ربع ساعةعلى الصمت... ثم ننفجر فى الضحك .. وفى النهاية لانملك إلا أن نسمعه .. وفى أحيان كثيرة كان يستطيع أحمد غريب أن يوقعنا فى حيرة من أمرنا ... ونظل نفكر ونتحقق من روايته ...هل هو صادق؟ ... هل يفشر؟........!!!!!!
و جاء ( أحمد غريب) ذات يوما.... وبعد حرب أكتوبر بأجمل حلقات كوميديا الحرب فى حينا ...
كنا على القهوة نتحدث عن الثغرة وحصار الجيش الثالث داخل سيناء .. وإقالة سعد الدين الشاذلى رئيس الأركان... ووقف القتال .. وظل أحمد غريب صامتا كعادته .. وفجأة أنطلق أحمد غريب:
لم يبدأ الحديث بجملته المعتادة (ياجماعة دى أسرار عسـكرية )..... فقد كان يعلم بفطرته أن الحرب أنتهت ولم يعد هناك أسرار ولايحزنون .. هتف أحمد غريب قائلا:
عارفين الثغرة حصلت أزاى ، وضرب بكفه فوق الترابيزة وبدأ قصته الطويلة:
..بداية من توزيع القوات.. والمهام.... ومواقع العدو.... والفصل بين الجيش الثانى والثالث فى منطقة البحيرات المرة ... واسـترسـل فى الشرح ..
الكلام اللى أنا ها أقوله ده على مسئوليتى وربنا شاهد..
قبل الثغرة بيوم واحد أستدعانى سعد الدين الشاذلى, وناقشنى فى أوضاع القوات , وأطلعنى على خططه القتالية ,وتكتيكاته فى المعركة, وطلب منى أن أقول رأيى بصراحة ووضوح!!!!!
فجلست لمدة ربع ساعة أفكر فيما قاله سعد الدين الشاذلى، وفى النهاية رفضت خطته لأن كان فيها العديد من الثغرات.... وأخذ بلغة جميلة وشيقة يوضح لنا أين كانت الثغرات فى خطة سعد الدين الشاذلى .....
لقد قمت بوضع خطة بديلة تتعارض جذريا مع خطة سعد الدين الشاذلى ، وفى نهاية الأمر رفض سعد الدين الشاذلى خطتى.....!!!!!!!
ولما حاولت مناقشته وإقناعه أنهى النقاش بقوله :
عسكرى أحمد غريب نفذ الأوامر العسكرية.
وطبعا أتنفذت خطه سعد الدين الشاذلى , وأيش جاب العسكرى المتطوع أحمد غريب جنب رئيس الأركان سعد الدين الشاذلى؟!!
بلد وسخة .. بلد شهادات ..
ولما أتنفذت خطة سعد الدين الشاذلى .. وحصلت الثغرة وأتحاصر الجيش الثالث ،وبعد ما حصل اللى حصل .. وقف سعد الدين الشاذلى يزعق على الجبهة بأعلى صوته:
( أنا اللى أستاهل .. أنا اللى أستاهل ...أنا اللى ما سمعتش كلام أحمد غريب)!!!!!!!!
وعندما وصل إلى هذه الجملة ضج الجميع بالضحك..... وكانت تلك المرة الأولى التى يضحك معنا فيها أحمد غريب.......أختتم الحديث بكلماته :
قوموا روحوا ياولاد الكلب ...الحرب أنتهت .. حرب أكتوبر
أخر الحروب.......
يعنى كان هيحصل أيه لو سمعوا مرة واحدة لكلام أحمد غريب).....
وغادر أحمد غريب ( البطل الحقيقى لكوميديا الحرب) القهوة يضرب كفا على كف....
وبنهاية الحرب كف أحمد غريب عن روايات كوميديا الحرب...............
وأنتقلنا لروايات كوميديا السلام وتوالت علينا تصريحات وخطب لأنور السادات عن قصة عزل سعد الدين الشاذلى .. كما توالت علينا كتابات محمد حسنين هيكل, وفى كل مرة كنا نسمع أو نقرأ أونناقش ...
نضحك فى النهاية ونقول:
( يبدو أن أحمد غريب كان صادقا فى روايته الأخيرة....... يستاهلوا علشان ما سمعوش كلام أحمد غريب... لكن على العموم....
(بالفــول والعــدس...هنكمل المــشوار...وأجراس العودة لن تقرع...فالأصبع فى أســت الشــعب)...
....وفى مرة قابلت أحمد غريب وبعد أن ظل يسـرد قصص وبطولات الماضى من ضرب المدمرة أيلات إنتهاء بالثغرة .... قلت له:  ياأحمد ياغريب ... الإصبع فى أست الشعب ..
قال بسرعة بديهية : ليه حاسس بحاجه ؟!!
وكانت تلك قفشة جملية من قفشات كوميديا السلام .
يسهل على المرء أن يرطن بالسياسة ، وان يثرثر بالحديث عن: الطبقات... والصراع الطبقى.... وأن يتحذلق بكلمات :
"الأمبريالية.. والبروليتاريا.. والعولمة... والعالم الثالث... والمركز والأطراف.. وفاض القيمة والديالكتيك ....والنظرة الأحادية الجانب.... وطبيعة المرحلة... وقضايا التكتيك والأستراتيجية... والمسألة القومية ....والمسألة الزراعية ... الخ...
الكتب كثيرة فوق الرفوف... والكتب بمفردها لاتشكل وعيا طبقيا... والكتب بمفردها لاتخلق مناضلا سياسيا .
الممارسةهى الأم... و المعرفة والوعى الثورى هو الأب .
فأين كانت تقف مجموعة الشباب فى حينا من ذلك؟
فى الحقيقة وفى عام 1969 كنا أيتاما بحق .. بلا أب..... وبلا أم .....
بؤس الحى وفقره ومجاورته لأحياء الأغنياء زرع فينا حسا طبقيا....وحالة الحرب زرعت فينا حسا وطنيا ، وحينما أنطلقنا للعمل وتشكلت فينا نقطة البداية:
فإننا سرنا فى طريق العمل الإجتماعى والخدمى.... طريق الممارسة المشوهة ... لاطريق الممارسة الثورية ..كانت الممارسة مشوهة.... وكان( الوعى الثورى) غائبا لذا كنا أيتاما،
لكن (الحس الوطنى الذى أمتزج بالحس الطبقى) كان هو مصدر حمايتنا الحقيقية من أخطار الممارسة المشوهة, لقد كانت كوميديا وتراجيديا البؤس التى تدور حولنا ،وكانت دماء شهداء حينا الممزوجة بكوميديا أحمد غريب تشكل ملامح إنحيازنا الطبقى و الوطنى.
والوجدان الطبقى لايمكن أن تخلقه الكتب مهما كانت ثوريتها ... الكتب الثورية يمكن أن تؤثر فى الوعى السياسى .......لكن الوعى الفاقد للوجدان الوطنى والطبقى هو وعيا زائفا .. وعيا سوف ينفرط تدريجيا داخل سجون النظام... وعيا سوف يغادر عقل صاحبه مع أول إغراء بالصعود الطبقى..
أى وجدان طبقى ... يتولد داخل المرء حين يرى طفلا من أطفال حارته يموت غرقا فى ترنش من القاذورات والمياه الضحلة؟.... وأى وجدان طبقى يتولد داخل المرء وهو يعرف جيدا أن هذا المصير قد يواجه طفله فى الغد؟!!
و أى وجدان طبقى يتولد داخل المرء حينما يشاهد جنديا من الحى متورم القدمين ممزق الثياب عائدا مهزوما من المعركة كما حدث فى67 ؟؟؟!!!!
السائرون على الأشواك يختلفون كثيرا عن القارئين عن الأشواك ...
والعائشون تحت خط الفقر يختلفون كثيرا عن من يكتبون عن خط الفقر.
أيضا ياعزيزى ..
وحتى لانقع فى نظرة أحادية الجانب ( كما يقول المتحذلقون)............ أو بمعنى آخر:
وعلشان تكمل الصورة والأمور تبقى واضحة الجوانب ( كما يقول أبناء الشعب)..... لازم نعرف أن الوجدان الطبقى إن لم يبحث عن وعيه الطبقى فإنه سرعان ما ينطفئ وسرعان ما يضل الطريق.
وإذا كان:.....( الرجالة من غير جواز زى الشبابيك من غير إزاز)..... كذلك ياعزيزى:
وعى من غيــر وجــدان
زى القفــة من غير ودان
ووجدان لايبحث عن الوعى
زى طالب الرزق من غير سعى
يعنـــــى شــــحات
مجموعة الشباب أيتام حينا:
مالكو الوجدان الوطنى والطبقى ... فاقدى الوعى..... كيف بدأ يتشكل وعيهم ؟
وكيف بدءوا طريق البحث عن الوعى الغائب؟
وهل أنتقلت ممارستهم المشوهة إلى الممارسة الثورية ؟

الحلقة الثالثة الاسبوع القادم (هؤلاء تعلمنا منهم )ا

ليست هناك تعليقات:

حكايات من زمن فات

حكايات من زمن فات
اضغط على الصورة لتحميل الكتاب

حكايات من زمن جاى

حكايات من زمن جاى
اضغط على الصورة لتحميل الكتاب

قاوم يا فتى

قاوم يا فتى
اضغط على الصورة لتحميل الكتاب

أوراق عمالية

أوراق عمالية
اضغط على الصورة لتحميل الورقة