السبت، 16 يناير 2010

مجلة من صنع أيدينا ... و أجمل الأمهات ..... الحلقة الرابعة


الحلقة الرابعة

مجلة من صنع أيدينا......وأجمل الأمهات

كانت تجربة مجلة الحائط تجربة فريدة وجميلة بالنسبة لشباب حينا فقد حصلنا على فرخ من الورق المقوى .. كتب على ظهره عبارة يصرح بالنشر وتم التوقيع أسفلها أمين شباب المحافظة ... وتحت العبارة والتوقيع وضع ختم النسر......
جلسنا مجموعة الشباب فى غرفة بمنزل ( الهر)....والهرهو:شاكر عرفة... أبن حينا و رفيق الزنزانة وأنبل من قابلتهم فى صدقه ووضوحه وصراحته..
لم تكن معنا مقالات معدة من قبل.. صممنا عل ألا نكتب أى كلمة إلا إذا كانت نابعة من القلب ومن الوجدان ..فماذا نكتب؟
والكلمة اللى ما تبقى رصاصة .. ملعونه وخاينه ..والقلم الكداب.. شـــوكه فى طريق الحق.....
· رسمنا قطار طويل تتلوى عجلاته على القضبان.... والرسم يصور القطار مهتزا ومتأرجحا ... كتبنا على القطار عبارة:
( قطار ثورة 23يوليو) .. وكتبنا أسفل الرسم عبارة :
ياوابور قولى رايح على فين؟!!!!!
· رسـمنا صورة كاريكاتورية لمـسئول ما ... وأشرنا على راس المـسئول بسهم وكتبنا أمام الســهم عبـارة:
( مســــئول كبير قوى قوى قوى).......ورسمنا أمام هذا المسئول رسم لطالب جامعى .....
وأسفل الرسم كتبنا تلك العبارة على لسان الطالب وهو يخاطب المسئول قائلا:
خايـف أقول اللى فى قلبى!!!!!
· كتبنا مقالا بعنوان: ( سرحان البحيرىفى داير الناحية)
هاجمنا فيه أحد قيادات الإتحاد الأشتراكى بالحى والذى كان دائما يعرقل حركتنا بشكل دائم...(سرحان البحيرى) أحد شخصيات نجيب محفوظ فى قصة ميراماروالذى كان كان يمارس الدجل والكذب على الشابة زهرة التى ترمز لمصر بعبارات( أنا أشتراكى وأبويا عامل)، وكان أحد الشخصيات فى الرواية يقول له فركيكو يا أبن البحيرى..دى ساقية دايرة ياأبن البحيرى).
· قدم (سمير الشربينى) طالب كلية الهندسة وأبن حينا(وأطيب شبابه) قصيدة جميلة ..من تأليفه....
للأمانة لا أتذكر أبياتها لكنها كانت تسخر من صحافة الدولة ( الأهرام والأخبار والجمهورية) ..وأن ما تقرأه فى الأخبار هو نفس ما تقرأة فى الأهرام هو نفس ما تقرأه بالجمهورية.... والذى أتذكره من أبيات القصيدة مقطعها الأخير.... والذى كان سبب شقاء المجموعة داخل مبنى مباحث أمن الدولة.
أهـرام... أخبـار...جمـهورية
هى دى جــرايد الصبحية
قالوا قلت أيه ؟
تعالوا ... جـرى أيه؟
مفيش غير بلوة واحـــدة:
كل واحد فينا أخرس
ومغمض عينيه
· رسـمنا رسمآ كاريكاتيرىكبير فى منتصف المجلة كان عبارة عن:
حائط كبير مرسوم على قمته عشرة رؤؤس.....
وكتبنا على الحائط (الأتحاد الأشتراكى العربى لجنة العشــرة).....حيث أن اللجنة الأساسية بالإتحاد الإشتراكى وقتئذ كانت تسمى لجنة العشرة..
ووقف أمام هذا الحائط مجموعة من الشباب متحفزين وهم يصرخون:( دعونا ننطلق)...
أخذنا نعمل بجدية ونشاط فى تحرير المجلة.... نجمع النقود لشراء علبة ألوان فلوماستر ..
أحدنا يحضرمن منزله علبة ألوان خشب وورق كربون .. ورغم أتساع مساحات الكاريكاتير بالمجلة فإنه لم يكن بيننا من يجيد فن الكاريكاتير.... لكن الكاريكاتير بالمجلة كان جميلا ومدهشا ..
فقد أخذنا نجمع جرائد الأهرام من منازلنا وقصصنا منها جميع الرسومات الكاريكاتوريه لصلاح جاهين ، وأخذنا ننتقى منها ما يناسب فكرتنا ونشفه من الجريدة ثم بورق الكربون نطبعه على الفرخ المقوى .. ثم نلون بعد ذلك، وما عجزنا عن رسمه رسمناه حسب قدراتنا ومواهبنا المحدودة......
وقام سعيد محمدى ( شهيد حينا) بتصنيع برواز من الخشب يغطى من الخلف بلوح أبلاكاش ومن الأمام له ضلفة زجاجية لها قفل ومفتاح .. سرقنا زجاج الضلفة من مقر الأتحاد الإشتراكى.....
فى تمام الساعة الخامسة ذهبنا إلى ميدان الدقى (فى شهر رمضان)قبل أنطلاق مدفع الأفطار.....
بجوار قهوة أنديانا... ومحل بشير (بتاع اللبن).....ثبتنا برواز المجلة بالمسامير على شجرة ضخمة تتوسط القهوة ومحل اللبن ..وقفنا أمامها ننظر إليها بأعجاب شديد:
.......... مجـــلة من صنــع أيدينـــا......
وكنا نتلهف لمناقشة الناس فى المجلة .. نريد أن نعرف رأيهم فيما قد صنعناه..
كنا ندرك أننا أرتكبنا جريمة ما ..وإننا خدعنا المهندس عادل أدم..
كان يجب أن نعرض عليه المجلة للإطلاع عليها إحتراما لتوقيعه( يصرح بالنشر).. لكن فرحتنا الشديدة بالمجلة ولهفتنا الشديدة لمعرفة رأى الناس ومناقشتهم جعلتنا نتخطى الأنضباط التنظيمى داخل منظمة الشباب... ووضعنا مجلتنا فوق الشجرة أمام أضخم محطات الأتوبيس فى ميدان الدقى ..
كان الشارع شبه خالى تماما من البشر ومدفع الأفطار على وشك الإنطلاق... وذهب كل منا إلى منزله للإفطار ... وعدنا فى المساء (الساعة الثامنة) لتكوين حلقات النقاش حول المجلة ...
آه يا بحر الذكريات!!!
(سبتمبر1996) قابلت أبن حينا (محروس بدر) جلسنا نشرب الشاى على قهوة عبد الحليم وأثناء الحديث ضحك وقالى فاكر المجله فى ميدان الدقى ... ياسلام كانت أحلى أيام العمر.. وأخذ يقص على نص المقالات والأشعار والكاريكاتير بالمجلة...
فاكر مقالة سرحان البحيرى فى داير الناحيه.... فاكر كاريكاتير المسئول الكبير قوىقوىقوى..
أكثرمن.ربع قرن تقريبا مضى على هذه الحادثة ... ولاتتخيل أيها القارئ أى جمال وأى نور كان يطل من وجه محروس بدر وهو يروى تلك الحادثة التى حدثت عام 1970 .
كان يتحدث من أعماقه وكيانه... تتدفق ملايين الألحان إلى وجهه ويقول ضاحكا:
كنت أول واحد فيكم راح يستطلع رأى الناس فى المجلة..
تصور ما حدث.... ذهبت فى الساعة السابعة (قبل ماتيجوا بساعة)....
كان الناس مازالوا قليلين... وجدت ضابطا واقفا أمام المجلة( ضابط المباحث أحمد همام) ..الضابط قالى:
· تعرف مين اللى عامل المجلة دى؟.
قلت له :ليه هى عجبتك ؟
قال الضابط : لا أنا عايز أعرف مين اللى كتبوها .. شكلك كده واحد من اللى كتبوها ...
من الكلمة دى عرفت أنه ضابط .. فقلت له:
أنا ياعم رايح أحشش .. اخرجت له قطعة صغيرة من الحشيش كانت فى جيبى وقلت له:
· معقول واحد حشاش يكتب الكلام ده... سلامو عليكم .. وانصرفت.......
تصور شاف الحشيش فى أيدى وتركنى أنصرف.... ولو كان عرف أنى من بتوع المجلة كان قبض على.. غريبة ياأخى..........
( الكلمه فى البلد عند الدولة..أخطر من قرش الحشيش)
هذا ما قاله لى محروس فى عام 1996 أما فى عام 1970 فقد ذهبت مجموعة الشباب فى تمام الساعة الثامنة إلى مكان المجلة ...وكان المشهد جميلا فقد تزاحم البشر على المحطة أمام المجلة.. وكانوا يقرأون بشغف... وأبدى العديد منهم أعجابه الشديد بها.. ودخل الشباب فى نقاش مع البشر أمتد لفترة طويلة وفجاءة ظهر الضابط ومخبريه وبذكاء شديد قال الضابط:
ياسلام المجلة دى جميلة قوى.....
فقال الشباب فى صيحة واحدة :
(أحنـــا اللى عــاملينها)....
بعد هذه الصيحة......عينك ما تشوف الا النور..
المجلة تهشم زجاجها.......... وأخذ المخبرين ينزعونها من فوق الشجرة ..
والشباب يدافع بجسده عن المجلة.. وعراك وشجار.. وتم القبض على مجموعة الشباب.... ولأول مرة يدخل شباب حينا مبنى مباحث أمن الدولة (فرع الجيزه) بشارع جابر بن حيان).....
ولم يكن يعرف هؤلاء الشباب أن هذا المبنى سوف يكون مزارهم الدائم خلال السبعينيات:
دخل الشباب مقر مباحث أمن الدولة والأسئلة العديدة تطاردهم من أفواه زوار الفجر ....
أيه علاقتكم بالمجموعة اليسارية فى كلية العلوم؟.... أنطق قول؟؟ ... يابن الكلب أنتو تبع مين؟
ومين اللى حرضكم على كتابة المجلة ؟
وكمان ياولاد الكلب عايزين نعرف مين اللى تقصدوه بالمسئول الكبير قوى قوى قوى؟
قصدكم عبد الناصر طبعا ..
وقطر الثورة ... مش عاجبكم ؟.........!لولا الثورة ما كنتوأتعلمتوا ياولاد الكلب ..
لا... وآل أيه ... ولاد الكلب بيكتبوا شعر كمان ...عايزين نعرف تقصدوا أيه بعبارة:
.....(مفيش غير بلوه واحدة ... كل واحد فينا أخرس ومغمض عينيه).........
وكمان مين سرحان البحيرى؟
قولوا ياولاد الكلب مين سرحان البحيرى اللى فى داير الناحيه .. ساكن فى أنهى حارة؟
كان الشباب ينظر إلي المجلة نظرة أم إلى طفلها الجريح ... كان الشباب يود أن يخرج من هذا المقر والمجلة معه.... فالمجلة الني من صنع أيدينا...... كانت معنا أسيرة داخل المبنى والكلاب تنبح من حولنا ... وأيه أخرتها مع الضباط ولاد الشعب غلابة بساط.......
لم يجد مجموعة الشباب سوى عبارة واحدة أخذ يرددونها:
أحنا بتوع المنظمة وهنا ( شخر ) أحد الضباط قائلا
منظمة أيه ياولاد الكلب؟!! منظمة التحرير!!! أسم المنظمة الى بتنتموا ليها أيه ؟!!!!
هوه فيه منظمات فى البلد ما نعرفش عنها حاجه..... وذهل الضباط حينما قلنا لهم:
منظمة الشباب...... ( شــخروا كعادتهم) ... وقالوا:
بقى أنتو ياشوية عيال هتلبسونا العمة..... معقول منظمة شباب وبتهاجموا الثورة وعبد الناصر..
ذهل الضابط حينما قال أحد الشباب:
أحنا معانا تصريح بالنشر... وختم المنظمة على ظهر المجلة ....
ذهبوا إلى المجلة... وفكوا دبابيس المكتب التى ثبتت بها المجلة على البرواز....
ولما وجدوا توقيع ( عادل أدم ) وختم النسر قال أحدهم:
وكمان ختم نسر... وقعت أبوكم سودة....
وبدأت التليفونات تعمل والإتصالات تدور من حولنا...... والشباب حائرون ... صامتون.....
وبعد ساعات خرج الشباب من هذا المبنى الكريه.....
جاء عادل أدم ومحمد خليل لإستلامنا من أيادى زوار الفجر.. عاد الشباب بعد أن أطلق سراحهم ..
وهم يضحكون ويقلدون شخير الضباط وأسئلتهم.. وحينما وصلنا إلى بيت المهندس عبده مصطفى(أبن حينا و طالب كلية الهندسة والذى كان مقبوضا عليه مع مجموعة الشباب).....
كان الضحك هستريا وصاخبا.....
فقد وجد عبده مصطفى أمه وقد حرقت جميع الكتب الدراسيه بتاعة الكلية فى أحد أفران خبيز العيش داخل المنزل.. وقال عبده لأمه:
ليه حرقتى الكتب... دى كتب المذاكره بتاعة الكليه...... قالت الأم وببساطة :
خالك شعبان العسقلانى جه وقالى عبده أتقبض عليه من قدام المجلة فى ميدان الدقى..
وطالما مسكوه يبقى أحرقى الورق اللى فى البيت ..علشان زمان ضباط المباحث جايين يفتشوا البيت ويدورا ع الورق ...
طب يا أمه.. تقومى تحرقي كتب الدراسة ؟!!!!
وأنا أيش عرفنى أنها كتب دراسة.... خلاص فداك ياضنايا .. المهم رجعتوا بالسلامة.....
وقامت وأعدت الشاى لجميع الحاضرين.....
أمهات بسيطة.. أجمل الأمهات......
بساطة وحنان وتلقائية ...كم قاست معنا أمهاتنا؟......
وعانت الكثير من العذاب والحيرة فى هذا الصراع.....
كانت أمى تقول لى دائما بعد كل خروج من السجن ... وقبل كل دخول :
ياأبنى الظلم فى البلد من زمان.... من زمان قوى........
وأنت بقى يا فالح اللى هتغير البلد..... تروح فين ياصعلوك بين الملوك...... دا أنت يتيم ..
والدولة مفترية...... لم تكن أمى تعرف القراءة والكتابة مثل أغلب ألآمهات فى حينا ..
لم تقرأ فى الكتب الثورية:
( الدولة أداة قمع ...والدولة أداة سيطرة طبقة على طبقة)
لكن فى تعبيرها البسيط التلقا ئى:
( ياإبنى... الدوله مفتريه).......( ويا أبنى الظلم فى البلد من زمان.... من زمان قوى).....
كانت تجسد رحلة المعاناة الطويلة لأمة بأسرها!!!!!!!
خرجنا من مبنى المباحث فى المساء ...وفتحنا مقر المنظمة فىاليوم التالى .....
لم تكن هناك أى ذرة خوف بين مجموعة الشباب( سواء من قبض عليهم أو من لم يقبض عليهم).... كان حزننا الوحيد على المجلة وبروازها لإنها ظلت فى الأسر ..بينما نحن أصبحنا طلقاء..
لم يحولنا عادل أدم أو فريد عبد الكريم أو عبد المنعم خليل أو محمد خليل لآى تحقيق تنظيمى داخل المنظمة.. ولم يناقشونا حتى فيما كتبنا.. ربما جائنى إحساس وقتها إنهم مبسوطين مما فعلناه ..
لم يتعاملوا معنا كرجال سلطه أو رجال نظام...... رغم إنهم جميعا كانوا ناصريين فكرا وعقيدة..
ضحكوا معنا مثلما ضحكنا على شخير ضباط المباحث.....
وأخذوا يسمعون منا بروح الأخوة:
كيف صنعنا البرواز الخشبى؟ كيف سرقنا لوح الزجاج الكبير من مقر الإتحاد الأشتراكى؟
كيف رسمنا الكاريكاتير ؟كيف حرقت أم عبده مصطفى كتبه الدراسية؟
وسارت الأمور ببساطة ويسر.. وأنطلقنا فى العمل بحماس أكبر وجرأة شديدة وكانت تلك قصة مجلتنا داخل الحى.
مجلة الحائط .. أسلوب جميل من أساليب الإلتحام بالجماهير .. مجلة يدور من حولها حلقات النقاش .. صحافة صادقة سريعة التحرير .. سريعة الكتابة....
الكاتب يعرف رأى الجمهور بصورة مباشرة فيما يكتبه.. بعشرة قروش(وقتها) تستطيع أن تحرر مجلتك فى بضع ساعات.... الحوار الدائر حول المجلة أهم من المجلة ذاتها ... المجلة مجرد ورقة..
وجرس يدق لفتح باب النقاش....
أن تدافع عن رأيك أمام الجمهور... يكسبك المهارة على الإقناع ومجادلة الرأى الآخر ...
المقالة القصيرة ... الكاريكاتير السريع ... والعبارة المختصرة المفيدة..ز والأسلوب البسيط الذى يجذب القارئ ..هذه الأشياء سمات المجلة الحائطية الناجحة.
الكلمة الصادقة والكلمة الكاذبة سرعان ماتتضح فوق مجلة الحائط وأمام حلقة النقاش:
قوة مجلة الحائط... ثورية أفكارها.... ومدى صدقها.
و المجلة وعى وفن ..فمجلة الحائط... شكل ومضمون ولا ينفصل هذا عن ذاك.
كلاب أمن الدولة ومخبريها لا يهمهم الشكل ولا المضمون..... يهمهم فقط من هم صانعوها ؟
يهمهم فقط التقرير المرفوع إلى الرئاسات العليا .. ويهمهم أيضا تمزيقها وتحطيمها....
فكم من المجلات تمزقت وتحطمت تحت أقدامهم لكن :
الكلاب تعـــوى والقافــــلة تســـــير.......
والغربة عذاب ومتاهة....... والحلم أخضر وعنيد.........
 الحلقة القادمة الاسبوع القادم (فصول التقوية ..وندوة قهوة السرساوى....وأحداث 15مايو1971 )

ليست هناك تعليقات:

حكايات من زمن فات

حكايات من زمن فات
اضغط على الصورة لتحميل الكتاب

حكايات من زمن جاى

حكايات من زمن جاى
اضغط على الصورة لتحميل الكتاب

قاوم يا فتى

قاوم يا فتى
اضغط على الصورة لتحميل الكتاب

أوراق عمالية

أوراق عمالية
اضغط على الصورة لتحميل الورقة